الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الخصائص **
هذا موضع لم يسمه أحد من أصحابنا غير أن أبا علي رحمه الله كان يستعين به ويخلد إليه مع إعواز الاشتقاق الأصغر. لكنه مع هذا لم يسمه وإنما كان يعتاده عند الضرورة ويستروج إليه ويتعلل به. وإنما هذا التلقيب لنا نحن. وستراه فتعلم أنه لقب مستحسن. وذلك أن الاشتقاق عندي على ضربين: كبير وصغير. فالصغير ما في أيدي الناس وكتبهم كأن تأخذ أصلا من الأصول فتتقراه فتجمع بين معانيه وإن اختلفت صيغه ومبانيه. وذلك كتركيب " س ل م " فإنك تأخذ منه معنى السلامة في تصرفه نحو سلم ويسلم وسالم وسلمان وسلمى والسلامة والسليم: اللديغ أطلق عليه تفاؤلا بالسلامة. وعلى ذلك بقية الباب إذا تأولته وبقية الأصول غيره كتركيب " ض ر ب " و " ج ل س " و " ز ب ل " على ما في أيدي الناس من ذلك. فهذا هو الاشبقاق الأصغر. وقد قدم أبو بكر رحمه الله رسالته فيه بما أغنى عن إعادته لأن أبا بكر لم يأل فيه نصحا وإحكاما وصنعة وتأنيسا. وأما الاشتقاق الأكبر فهو أن تأخذ أصلا من الأصول الثلاثية فتعقد عليه وعلى تقاليبه الستة معنى واحداً تجتمع التراكيب الستة وما يتصرف من كل واحد منها عليه وإن تباعد شيء من ذلك عنه رد بلطف الصنعة والتأويل إليه كما يفعل الاشتقاقيون ذلك في التركيب الواحد. وقد كنا قدمنا ذكر طرف من هذا الضرب من الاشتقاق في أول هذا الكتاب عند ذكرنا أصل الكلام والقول وما يجيء من تقليب تراكيبهما نحو " ك ل م " " ك م ل " " م ك ل " " م ل ك " " ل ك م " " ل م ك " وكذلك " ق و ل " " ق ل و " " و ق ل " " و ل ق " " ل ق و " " ل و ق " وهذا أعوص مذهباً وأحزن مضطربا. وذلك أنا عقدنا تقاليب الكلام الستة على القوة والشدة وتقاليب القول الستة على الإسراع والخفة. وقد مضى ذلك في صدر الكتاب. لكن بقي علينا أن نحضر هنا مما يتصل به أحرفا تؤنس بالأول وتشجع منه المتأمل. فمن ذلك تقليب " ج ب ر " فهي أين وقعت للقوة والشدة. منها جبرت العظم والفقير إذا قويتهما وشددت منهما والجبر: الملك لقوته وتقويته لغيره. ومنها رجل مجرب إذا جرسته الأمور ونجذته فقويت منته واشتدت شكيمته. ومنه الجراب لأنه يحفظ ما فيه وإذا حفظ الشيء وروعى اشتد وقوى وإذا أغفل وأهمل تساقط ورذى. ومنها الأبجر والبجرة وهو القوى السرة. ومنه قول علي صلوات الله عليه: إلى الله أشكو عجري وبجري تأويله: همومي وأحزاني وطريقه أن العجرة كل عقدة في الجسد فإذا كانت في البطن والسرة فهي البجرة والبجرة تأويله أن السرة غلظت ونتأت فاشتد مسها وأمرها. وفسر أيضاً قوله: عجرى وبجرى أي ما أبدى وأخفى من أحوالي. ومنه البرج لقوته في نفسه وقوة ما يليه به وكذلك البرج لنقاء بياض العين وصفاء سوادها هو قوة أمرها وأنه ليس بلون مستضعف ومنها رجبت الرجل إذا عظمته وقويت أمره. ومنه رجب لتعظيمهم إياه عن القتال فيه وإذا كرمت النخلة على أهلها فمالت دعموها بالرجبة وهو شيء تسند إليه لتقوى به. والراجبة: أحد فصوص الأصابع وهي مقوية لها. ومنها الرباجي وهو الرجل يفخر بأكثر من فعله قال: وتلقاه رباجيا فخورا تأويله أنه يعظم نفسه ويقوي أمره. ومن ذلك تراكيب " ق س و " " ق و س " " و ق س " " و س ق " " س و ق " وأهمل " س ق و " وجميع ذلك إلى القوة والاجتماع. منها القسوة وهي شدة القلب واجتماعه ألا ترى إلى قوله: يا ليت شعري والمنى لا تنفع هل أغدون يوما وأمري مجمع أي قوى مجتمع ومنها القوس لشدتها واجتماع طرفيها. ومنها الوقس لابتداء الجرب وذلك لأنه يجمع الجلد ويقحله ومنها الوسق للحمل وذلك لاجتماعه وشدته ومنه استوسق الأمر أي اجتمع " والليل وما وسق " أي جمع ومنها السوق وذلك لأنه استحثاث وجمع للمسوق بعضه مستوسقات لو يجدن سائقا فهذا كقولك: مجتمعات لو يجدن جامعا فإن شد شيء من شعب هذه الأصول عن عقده ظاهرا رد بالتأويل إليه وعطف بالملاطفة عليه. بل إذا كان هذا قد يعرض في الأصل الواحد حتى يحتاج فيه إلى ما قلناه كان فيما انتشرت أصوله بالتقديم والتأخير أولى باحتمال وأجدر بالتأول له. ومن ذلك تقليب " س م ل " " س ل م " " م س ل " " م ل س " " ل م س " " ل س م " والمعنى الجامع لها المشتمل عليها الإصحاب والملاينة. ومنها الثوب السمل وهو الخلق. وذلك لأنه ليس عليه من الوبر الزئبر ما على الجديد. فاليد إذا مرت عليه للمس لم يستوقفها عنه جدة المنسج ولا خشنة الملمس. والسمل: الماء القليل كأنه شيء قد أخلق وضعف عن قوة المضطرب وجمة المرتكض ولذلك قال: حوضا كأن ماءه إذا عسل من آخر الليل رو يزى سمل وقال آخر: وراد أسمال المياه السدم في أخريات الغبش المغم ومنها السلامة. وذلك أن السليم ليس فيه عيب تقف النفس عليه ولا يعترض عليها به. ومنها المسل والمسل والمسيل كله واحد وذلك أن الماء لا يجري إلا في مذهب له وإمام منقاد به ولو صادف حاجزا لاعتاقه فلم يجد متسرباً معه. ومنها الأملس والملساء. وذلك أنه لا اعتراض على الناظر فيه والمتصفح له. ومنها اللمس. وذلك أنه إن عارض اليد شيء حائل بينها وبين الملموس لم يصح هناك لمس فإنما هو إهواء باليد نحوه ووصول منها إليه لا حاجز ولا مانع ولا بد مع اللمس من إمرار اليد وتحريكها على الملموس ولو كان هناك حائل لاستوقفت به عنه. ومنه الملامسة أو لامستم النساء أي جامعتم وذلك أنه لا بد هناك من حركات واعتمال وهذا واضح. فأما " ل س م " فمهمل. وعلى أنهم قد قالوا: نسمت الريح إذا مرت مراً سهلا ضعيفا والنون أخت اللام وسترى نحو ذلك. ومر بنا أيضاً ألسمت الرجل حجته إذا لقنته وألزمته إياها. قال: لا تلسمن أبا عمران حجته ولا تكونن له عونا على عمرا فهذا من ذلك أي سهلتها وأوضحتها. واعلم أنا لا ندعى أن هذا مستمر في جميع اللغة كما لا ندعي للاشتقاق الأصغر أنه في جميع اللغة. بل إذا كان ذلك الذي هو في القسمة سدس هذا أو خمسه متعذرا صعبا كان تطبيق هذا وإحاطته أصعب مذهبا وأعز ملتمسا. بل لو صح من هذا النحو وهذه الصنعة المادة الواحدة تتقلب على ضروب التقلب كان غريباً معجباً. فكيف به وهو يكاد يساوق الاشتقاق الأصغر ويجاريه إلى المدى الأبعد. وقد رسمت لك منه رسماً فاحتذه وتقيله تحظ به وتكثر إعظام هذه اللغة الكريمة من أجله. نعم وتسترفده في بعض الحاجة إليه فيعينك ويأخذ بيديك ألا ترى أن أبا علي رحمه الله كان يقوى كون لام أثفية فيمن جعلها أفعولة واواً بقولهم: جاء يثفه ويقول: هذا من الواو لا محالة كيعده. فيرجح بذلك الواو على الياء التي ساوقتها في يثفوه ويثفيه. أفلا تراه كيف استعان على لام ثفا بفاء وثف. وإنما ذلك لأنها مادة واحدة شكلت على صور مختلفة فكأنها لفظة واحدة. وقلت مرة للمتنبئ: أراك تستعمل في شعرك ذا وتا وذي كثيراً ففكر شيئاً ثم قال: إن هذا الشعر لم يعمل كله في وقت واحد. فقلت له: أجل لكن المادة واحدة. فأمسك البتة. والشيء يذكر لنظيره فإن المعاني وإن اختلفت معنياتها آوية إلى مضجع غير مقض وآخذ بعضها برقاب بعض.
قد ثبت أن الإدغام المألوف المعتاد إنما هو تقريب صوت من صوت. وهو في الكلام على ضربين: أحدهما أن يلتقى المثلان على الأحكام التي يكون عنها الإدغام فيدغم الأول في الآخر. والأول من الحرفين في ذلك على ضربين: ساكن ومتحرك فالمدغم الساكن الأصل كطاء قطع وكاف سكر الأوليين والمتحرك نحو دال شد ولام معتل. والآخر أن يلتقى المتقاربان على الأحكام التي يسوغ معها الإدغام فتقلب أحدهما إلى لفظ صاحبه فتدغمه فيه. وذلك مثل ود في اللغة التميمية وأمحى وأماز واصبر واثاقل عنه. والمعنى الجامع لهذا كله تقريب الصوت من الصوت ألا ترى أنك في قطع ونحوه قد أخفيت الساكن الأول في الثاني حتى نبا اللسان عنهما نبوة واحدة وزالت الوقفة التي كانت تكون في الأول لو لم تدغمه في الآخر ألا ترى أنك لو تكلفت ترك إدغام الطاء الأولى لتجشمت لها وقفة عليها تمتاز من شدة ممازجتها للثانية بها كقولك قططع وسككر وهذا إنما تحكمه المشافهة بله. فإن أنت أزلت تلك الوقيفة والفترة على الأول خلطته بالثاني فكان قربه منه وإدغامه فيه أشد لجذبه إليه وإلحاقه بحكمه. فإن كان الأول من المثلين متحركا ثم أشكنته وأدغمته في الثاني فهو أظهر أمراً وأوضح حكماً ألا ترى أنك إنما أسكنته لتخلطه بالثاني وتجذبه إلى مضامته ومماسة لفظه بلفظه بزوال الحركة التي كانت حاجزة بينه وبينه. وأما إن كانا مختلفين ثم قلبت أدغمت فلا إشكال في إيثار تقريب أحدهما من صاحبه وأما إن كانا مختلفين ثم قلبت أدغمت فلا إشكال في إيثار تقريب أحدهما من صاحبه لأن قلب المتقارب أوكد من تسكين النظير. فهذا حديث الإدغام الأكبر وأما الإدغام الأصغر فهو تقريب الحرف من الحرف وأدناؤه منه من غير إدغام يكون هناك. وهو ضروب. فمن ذلك الإمالة وإنما وقعت في الكلام لتقريب الصوت من الصوت. وذلك نحو عالم وكتاب وسعَى وقَضى واسقضى ألا تراك قربت فتحة العين من عالِم إلى كسرة اللام منه بأن نحوت بالفتحة نحو الكسرة فأملت الألف نحو الياء. وكذلك سعى وقضى: نحوت بالألف نحو الياء التي انقلبت عنها. وعليه بقية الباب. ومن ذلك أن تقع فاء افتعل صاداً أو ضاداً أو طاء أو ظاء فتقلب لها تاؤه طاء. وذلك نحو اصطبر واضطبر واضطرب واطرد واظطلم. فهذا تقريب من غير إدغام فأما اطرد فمن ذا الباب أيضاً ولكن إدغامه وردههنا التقاطا لا قصداً. وذلك أن فاءه طاء فلما أبدلت تاؤه طاء صادفت الفاء طاء فوجب الإدغام لما اتفق حينئذ ولو لم يكن هناك طاء لم يكن إدغام ألا ترى أن اصطبر واضطرب واظطلم لما كان الأول منه غير طاء لم يقع إدغام قال: ويظلم أحياناً فيظطلم وأما فيظلم وفيطلم بالظاء والطاء جميعاً فإدغام عن قصد لا عن توارد. فقد عرفت بذلك فرق ما بين اطرد وبين اصبر واظلم واطلم. ومن ذلك أن تقع فاء افتعل زايا أو دالاً أو ذالا فتقلب تاؤه لها دالاً كقولهم: ازدان وادعى وادكر واذدكر فيما حكاه أبو عمرو. فأما ادعى فحديثه حديث اطرد لا غير في أنه لم تقلب قصداً للإدغام لكن قلبت تاء ادعى دالاً كقلبها في ازدان ثم وافقت فاؤه الدال المبدلة من التاء فلم يكن من الإدغام بد. وأما اذدكر فمنزلة بين ازدان وادعى. وذلك أنه لما قلب التاء دالاً لوقوع الذال قبلها صار إلى اذدكر فقد كان هذا وجهاً يقال مثله مع أن أبا عمرو قد أثبته وذكره غير أنه أجريت الذال لقربها من الدال بالجهر مجرى الدال فأوثر الإدغام لتضام الحرفين في الجهر فأدغم. فهذه منزلة بين منزلتي ازدان وادعى. وأما اذكر فاسمع واصبر. ومن ذلك أن تقع السين قبل الحرف المستعلى فتقرب منه بقلبها صاداً على ما هو مبين في موضعه من باب الإدغام. وذلك كقولهم في سُقْت: صُقْت وفي السوق: الصوق وفي سبقت: صبقت وفي سملق وسوق: صملق وصويق وفي سالغ وساخط: صالخ وصاخط وفي سقر: صقر وفي مساليخ: مصاليخ. ومن ذلك قولهم ست أصلها سدس فقربوا السين من الدال بأن قلبوها تاء فصارت سدت فهذا تقريب لغير إدغام ثم إنهم فيما بعد أبدلوا الدال تقاء لقربها منها إرادة للإدغام الآن فقالوا ست. فالتغيير الأول للتقريب من غير إدغام والتغيير الثاني مقصود به الإدغام. ومن ذلك تقريب الصوت من الصوت مع حروف الحلق نحو شعيرٍ وبعيرٍ ورغيفٍ. وسمعت الشجري غير مرة يقول: زئير الأسد يريد الزئير. وحكى أبو زيد عنهم: الجنة لمن خاف وعيد الله. فأما مغيرة فليس إتباعه لأجل حرف الحلق إنما هو من باب منتن ومن قولهم أنا أجوءك وأنبوك. والقرفصاء والسلطان وهو منحدر من الجبل وحكة سيبويه أيضاً منتن ففيه إذاً ثلاث لغات: مُنْتِن وهو الأصل ثم يليه مِنْتِن وأقلها مُنْتُن. فأما قول من قال: إن مُنْتِن من قولهم أنتن ومِنْتِن من قولهم نَتُن الشيء فإن ذلك لكنة منه. ومن ذلك أيضاً قولهم فَعَل يَفْعَل مما عينه أو لامه حرف حلقي نحو سَأَل يسأل وقَرَأ يَقَرَأ وسَعَر يَسعر وقرع يقرع وسَحَل يسحل وسَبَح يَسْبَح. وذلك أنهم ضارعوا بفتحة العين في المضارع جنس حرف الحلق لما كان موضعاً منه مخرج الألف التي منها الفتحة. ومن التقريب قولهم: الحمدُ لُلَّه والحمدِ لِله. ومنه تقريب الحرف من الحرف نحو قولهم في نحو مَصْدر: مَزْدر وفي التصدير: التزدير. وعليه قول العرب في المثل " لم يُحْرَمْ منْ فُزْد لَهُ " أصله فصد له ثم أسكنت العين على قولهم في ضُرِب: ضُرْبَ وقوله: ونفخوا في مدائنهم فطاروا فصار تقديره: فُصْدله فما سكنت الصاد فضعفت به وجاورت الصاد وهو مهموسة الدال وهي مجهورة قربت منها بأن أشمت شيئاً من لفظ الزاي المقاربة للدال بالجهر. ونحو من ذلك قولهم: مررت بمذعور وابن بور: فهذا نحو من قيل وغيض لفاظاً وإن اختلفا طريقاً. ومن ذلك إضعاف الحركة لتقرب بذلك من السكون نحو حيِى وأُحْيِى وأُعيىَ فهو وإن كان مخفى بوزنه محركا وشاهد ذاك قبول وزن الشعر له قبوله للمتحرك البتة. وذلك قوله: أ أن زم أجمال وفارق جيرة فهذا بزنته محققاً في قولك: أأن زم أجمال. فأما روم الحركة فهي وإن كانت من هذا فإنما هي كالإهابة بالساكن نحو الحركة وهو لذلك ضرب من المضارعة. وأخفى منها الإشمام لأنه للعين لا للأذن. وقد دعاهم إيثار قرب الصوت إلى أن أخلوا بالإعراب فقال بعضهم: وقال اضرب الساقين إمكَ هابِل وهذا نحو من الحمدُ لُلَّه والحمدِ لِله. وجميع ما هذه حاله مما قرب فيه الصوت من الصوت جار مجرى الإدغام بما ذكرناه من التقريب. وإنما احتطنا له بهذه السمة التي هي الإدغام الصغير لأن في هذا إيذانا بأن التقريب شامل للموضعين وأنه هو المراد المبغى في كلتا الجهتين فاعرف ذلك.
هذا غور من العربية لا ينتصف منه ولا يكاد يحاط به. وأكثر كلام العرب عليه وإن كان غفلا مسهواً عنه. وهو على أضرب: منها اقتراب الأصلين الثلاثيين كضياط وضَيْطار ولُوقةٍ وأَلوقةٍ ورخْو ورِخْوَدٍّ ويَنْجُوج وأَلَنْجُوج. وقد مضى ذكر ذلك. ومنها اقتراب الأصلين ثلاثياً أحدهما ورباعياً صاحبه أو رباعيا أحدهما وخماسياً صاحبه كدمث ودمثر و سبط وسبطر ولؤلؤ ولآل والضبغطى والضبغطرى. ومنه قوله: قد دَرْدَبَتْ والشيخ دَرْدَبِيس وقد مضى هذا أيضاً. ومنها التقديم والتأخير على ما قلنا في الباب الذي قبل هذا في تقليب الأصول نحو " ك ل م " و " ك م ل " و " م ك ل " ونحو ذلك. وهذا كله والحروف واحدة غير متجاورة. لكن من وراء هذا ضرب غيره وهو أن تتقارب الحروف لتقارب المعاني. وهذا باب واسع. من ذلك قول الله سبحانه: فهذا في معنى تهزهم هزا والهمزة أخت الهاء فتقارب اللفظان لتقارب المعنيين. وكأنهم خصوا هذا المعنى بالهمزة لأنها أقوى من الهاء وهذا المعنى أعظم في النفوس من الهز لأنك قد تهز ما لا بال له كالجذع وساق الشجرة ونحو ذلك. ومنه العسف والأسف والعين أخت الهمزة كما أن الأسف يعسف النفس وينال منها والهمزة أقوى من العين كما أن أسف النفس أغلظ من التردد بالعسف. فقد ترى تصاقب اللفظين لتصاقب المعنيين. ومنه القرمة وهي الفقرة تحز على أنف البعير. وقريب منه قلمت أظفاري لأن هذا انتقاص للظفر وذلك انتقاص للجلد. فالراء أخت اللام والعملان متقاربان. وعليه قالوا فيها: الجرفة وهي من " ج ر ف " وهي أخت جلفت لقلم إذا أخذت جُلْفته وهذا من " ج ل ف " وقريب منه الجنف وهو الميل وإذا جَلَفت الشيء أو جرفته فقد أملته عما كان عليه وهذا من " ج ن ف ". ومثله تركيب " ع ل م " في العلامة والعلم. وقالوا مع ذلك: بيضة عرماء وقطيع أعرم إذا كان فيهما سواد وبياض وإذا وقع ذلك بأن أحد اللونين من صاحبه فكان كل واحد منهما علما ما زلن ينسبن وهنا كل صادقةٍ باتت تباشر عراما غير أزواجِ حتى سَلَكن الشوى منهن في مسكٍ من نسل جوابة الآفاقِ مهداج ومن ذلك تركيب " ح م س " و " ح ب س " قالوا: حبست الشيء وحمس الشر إذا اشتد. والتقاؤهما أن الشيئين إذا حبس أحدهما صاحبه تمانعا وتعازا فكان ذلك كالشر يقع بينهما. ومنه العَلْب: الأثر والعَلْم: الشقّ في الشفة العليا. فذاك من " ع ل ب " وهذا من " ع ل م " والباء أخت الميم قال طرفة: كأن عُلوب النسع في دأياتها موارد من خلقاء في ظهرٍ قردد ومنه تركيب " ق ر د " و " ق ر ت " قالوا للأرض: قَرْدَد وتلك نباك تكون في الأرض فهو من قرد الشيء وتقرد إذا تجمع أنشدنا أبو علي: أهوى لها مشقصٌ حشر فشبرقها وكنتُ أدعو قذاها الإثمد القردا أي أسمي الإثمد القرد أذى لها. يعنى عينه وقالوا: قرت الدم عليه أي جمد والتاء أخت الدال كما ترى. فأما لم خص هذا المعنى بذا الحرف فسنذكره في باب يلي هذا بعون الله تعالى. ومن ذلك العلز: خفة وطيش وقلق يعرض للإنسان وقالوا العلوص لوجع في الجوف يلتوي له ومنه الغَرب: الدلو العظيمة وذلك لأنها يغرف من الماء بها فذاك من " غ ر ب " وهذا من " غ ر ف " أنشد أبو زيد: كأن عيني وقد بانوني غربان في جدول منجنون واستعملوا تركيب " ج ب ل " و " ج ب ن " و " ج ب ر " لتقاربها في موضع واحد وهو الالتئام والتماسك. منه الجبل لشدته وقوته وجبن إذا استمسك وتقف وتجمع ومنه جبرت العظم ونحوه أي قويته. وقد تقع المضارعة في الأصل الواحد بالحرفين نحو قولهم: السحيل والصهيل قال: كان سحيله في كل فجر على أحساء يمؤود دعاء وذاك من " س ح ل " وهذا من " ص ه ل " والصاد أخت السين كما أن الهاء أخت الحاء. ونحو منه قولهم سحل في الصوت وزحر والسين أخت الزاي كما أن اللام أخت الراء. وقالوا جلف وجرم فهذا للقشر وهذا للقطع وهما متقاربان معنى متقاربان لفظاً لأن ذاك من " ج ل ف " وهذا من " ج ر م ". وقالوا: صال يصول كما قالوا: سار يسور. نعم وتجاوزوا ذلك إلى أن ضارعوا بالأصول الثلاثة: الفاء والعين واللام. فقالوا: عصر الشيء وقالوا: أزله إذا حبسه والعصر ضرب من الحبس. وذاك من " ع ص ر " وهذا من أزل والعين أخت الهمزة والصاد أخت الزاي والراء أخت اللام. وقالوا: الأزم: المنع والعصب: الشد فالمعنيان متقاربان والهمزة أخت العين والزاي أخت الصاد والميم أخت الباء. وذاك من أزم وهذا من " ع ص ب ". وقالوا: السلب والصرف وإذا سلب الشيء فقد صرف عن وجهه. فذاك من " س ل ب " وهذا من " ص ر ف " والسين أخت الصاد واللام أخت الراء والباء أخت الفاء. وقالوا: الغدر كما قالوا الختل والمعنيان متقاربان واللفظان متراسلان فذاك من " غ د ر " وهذا من " خ ت ل " فالغين أخت الخاء والدال أخت التاء والراء أخت اللام. وقالوا: زأر كما قالوا: سعل لتقارب اللفظ والمعنى. وقالوا: عدن بالمكان كما قالوا: تأطر أي أقام وتلبث. وقالوا: شرب كما قالوا: جلف لأن شارب الماء مفن له كالجلف للشيء. وقالوا: ألته حقه كما قالوا: عانده. وقالوا: الأرفة للحد بين الشيئين كما قالوا: علامة. وقالوا: قفز كما قالوا: كبس وذلك أن القافز إذا استقر على الأرض كبسها. وقالوا: صهل كما قالوا: صهل كما قالوا: زأر. وقالوا: الهتر كما قالوا: الإدل وكلاهما العجب. وقالوا: كلف به كما قالوا: تقرب منه وقالوا: تجعد كما قالوا: شحط وذلك أن الشيء إذا تجعد وتقبض عن غيره شحط وبعد عنه ومنه قول الأعشى: إذا نزل الحي حل الجحيش شقيا غويا مبينا غيورا وذاك من تركيب " ج ع د " وهذا من تركيب " ش ح ط " فالجيم أخت الشين والعين أخت الحاء والدال أخت الطاء. وقالوا: السيف والصوب وذلك أن السيف يوصف بأنه يرسب في الضريبة لحدته ومضائه ولذلك قالوا: سيف رسوب وهذا هو معنى صاب يصوب إذا انحدر. فذاك من " س ي ف " وهذا من " ص و ب " فالسين أخت الصاد والياء أخت الواو والفاء أخت الباء. وقالوا: جاع يجوع وشاء يشاء والجائع مريد للطعام لا محالة ولهذا يقول المدعو إلى الطعام إذا لم يجب: لا أريد ولست أشتهي ونحو ذلك والإرادة هي المشيئة. فذاك من " ج و ع " وهذا من " ش ي أ " والجيم أخت الشين والواو أخت الياء والعين أخت الهمزة. وقالوا: فلان حلس بيته إذا لازمه. وقالوا: أرز إلى الشيء إذا اجتمع نحوه وتقبض إليه ومنه إن الإسلام ليأرز إلى المدينة وقال: بآرزة الفقارة لم يخنها قطاف في الركاب ولا خلاء فذاك من " ح ل س " وهذا من " أ ر ز " فالحاء أخت الهمزة واللام أخت الراء والسين أخت الزاي. وقالوا: أفل كما قالوا: غبر لأن أفل: غاب والغابر غائب أيضاً. فذاك من " أ ف ل " وهذا من " غ ب ر " فالهمزة أخت الغين والفاء أخت الباء واللام أخت الراء. وهذا النحو من الصنعة موجود في أكثر الكلام وفرش اللغة و إنما بقي من يثيره ويبحث عن مكنونه بل من إذا أوضح له وكشفت عنده حقيقته طاع طبعه لها فوعاها وتقبلها. وهيهات ذلك مطلبا وعز فيهم مذهبا! وقد قال أبو بكر: من عرف ألف ومن جهل استوحش. ونحن نتبع هذا الباب باباً أغرب منه وأدل على حكمة القديم سبحانه وتقدست أسماؤه فتأمله تحظ به بعون الله تعالى.
اعلم أن هذا موضع شريف لطيف. وقد نبه عليه الخليل وسيبويه وتلقته الجماعة بالقبول له والاعتراف بصحته. قال الخليل: كأنهم توهموا في صوت الجندب استطالة ومداً فقالوا: صر وتوهموا في صوت البازي تقطيعاً فقالوا: صرصر. وقال سيبويه في المصادر التي جاءت على الفعلان: إنها تأتي للاضطراب والحركة نحو النقزان والغلبان والغثيان. فقابلوا بتوالي حركات المثال توالي حركات الأفعال. ووجدت أنا من هذا الحديث أشياء كثيرة على سمت ما حداه ومنهاج ما مثلاه. وذلك أنك تجد المصادر الرباعية المضعفة تأتي للتكرير نحو الزعزعة والقلقلة والصلصلة والقعقعة والصعصعة والجرجرة والقرقرة. ووجدت أيضاً الفَعَلى في المصادر والصفات إنما تأتى للسرعة نحو البشكي والجمزي والولقي قال رؤبة: أو بشكى وخد الظليم النز كأني ورحلي إذا هجرت على جمزي جازئ بالرمال أو اصحم حام جراميزه حزابية حيدى بالدحال فجعلوا المثال المكرر للمعنى المكرر أعني باب القلقلة والمثال الذي توالت حركاته للأفعال التي توالت الحركات فيها. ومن ذلك وهو أصنع منه أنهم جعلوا استفعل في أكثر الأمر للطلب نحو استسقى واستطعم واستوهب واستمنح واستقدم عمرا واستصرخ جعفرا. فرتبت في هذا الباب الحروف على ترتيب الأفعال. وتفسير ذلك أن الأفعال المحدث عنها أنها وقعت عن غير طلب إنما تفجأ حروفها الأصول أو ما ضارع بالصنعة الأصول. فالأصول نحو قولهم طعم ووهب ودخل وخرج وصعد ونزل. فهذا إخبار بأصول فاجأت عن أفعال وقعت ولم يكن معها دلالة تدل على طلب لها ولا إعمال فيها. وكذلك ما تقدمت الزيادة فيه على سمت الأصل نحو أحسن وأكرم وأعطى وأولى. فهذا من طريق الصنعة بوزن الأصل في نحو دحرج وسرهف وقوقى وزوزى. وذلك أنهم جعلوا هذا الكلام عبارات عن هذه المعاني فكلما ازدادت العبارة شبها بالمعنى كانت أدل عليه وأشهد بالغرض فيه. فلما كانت إذا فأجأت الأفعال فاجأت أصول المثل الدالة عليها أو ما جرى مجرى أصولها نحو وهب ومنح وأكرم و أحسن كذلك إذا أخبرت بأنك سعيت فيها وتسببت لها وجب أن تقدم أمام حروفها الأصول في مثلها الدالة عليها أحرفاً زائدة على تلك الأصول تكون كالمقدمة لها والمؤدية إليها. وذلك نحو استفعل فجاءت الهمزة والسين والتاء زوائد ثم وردت بعدها الأصول: الفاء والعين واللام. فهذا من اللفظ وفق المعنى الموجود هناك. وذلك أن الطلب للفعل والتماسه والسعي فيه والتأتي لوقوعه تقدمه ثم وقعت الإجابة إليه فتبع الفعل السؤال فيه والتسبب لوقوعه. فكما تبعت أفعال الإجابة أفعال الطلب كذلك تبعت حروف الأصل الحروف الزائدة التي وضعت للالتماس والمسئلة. وذلك نحو استخرج واستقدم واستوهب واستمنح واستعطى واستدنى. فهذا على سمت الصنعة التي تقدمت في رأي الخليل وسيبويه إلا أن هذه أغمض من تلك. غير أنها وإن كانت كذلك فإنها منقولة عنها ومعقودة عليها. ومن وجد مقالاً قال به وإن لم يسبق إليه غيره. فكيف به إذا تبع العلماء فيه وتلاهم على تمثيل معانيه. ومن ذلك أنهم جعلوا تكرير العين في المثال دليلاً على تكرير الفعل فقالوا: كسر وقطع وفتح وغلق. وذلك أنهم لما جعلوا الألفاظ دليلة المعاني فأقوى اللفظ ينبغي أن يقابل به قوة الفعل والعين أقوى من الفاء واللام وذلك لأنها واسطة لهما ومنكوفة بهما فصارا كأنهما سياج لها ومبذولان للعوارض دونها. ولذلك تجد الإعلال بالحذف فيهما دونها. فأما حذف الفاء ففي المصادر من باب وعد نحو العدة والزنة والطدة والتدة والهبة والإبة. وأما اللام فنحو اليد والدم والفم والأب والأخ والسنة والمائة والفئة. وقلما تجد الحذف في العين. فلما كانت الأفعال دليلة المعاني كرروا أقواها وجعلوه دليلاً على قوة المعنى المحدث به وهو تكرير الفعل كما جعلوا تقطيعه في نحو صرصر وحقحق دليلاً على تقطيعه. ولم يكونوا ليضعفوا الفاء ولا اللام لكراهية التضعيف في أول الكلمة والإشفاق على الحرف المضعف أن يجيء في آخرها وهو مكان الحذف وموضع الإعلال وهم قد أرادوا تحصين الحرف الدال على قوة الفعل. فهذا أيضاً من مساوقة الصيغة للمعاني. وقد أتبعوا اللام في باب المبالغة العين وذلك إذا كررت العين معها في نحو دمكمك وصمحمح وعركرك وعصبصب وغشمشم والموضع في ذلك للعين وإنما ضامتها اللام هنا تبعاً لها ولاحقة بها ألا ترى إلى ما جاء عنهم للمبالغة من نحو اخلولق واعشوشب واغدودن واحمومى واذلولى واقطوطى وكذلك في الاسم نحو عثوثل وغدودن وخفيدد وعقنقل وعبنبل وهجنجل قال: ظلت ظل يومها حوب حل وظل يوم لأبي الهجنجل فدخول لام التعريف فيه مع العلمية يدل على أنه في الأصل صفة كالحرث والعباس وكل واجد من هذه المثل قد فصل بين عينيه بالزائد لا باللام. فعلمت أن تكرير المعنى في تباب صمحمح إنما هو للعين وإن كانت اللام فيه أقوى من الزائد في باب افعوعل وفعوعل وفعيعل وفعنعل لأن اللام بالعين أشبه من الزائد بها. ولهذا أيضاً ضاعفوها كما ضاعفوا العين للمبالغة نحو عتل وصمل وقمد وحزق إلا أن العين أقعد في ذلك من اللام ألا ترى إن الفعل الذي هو موضع للمعاني لا يضعف ولا يؤكد تكريره إلا بالعين. هذا هو الباب. فأما اقعنسس واسحنكك فليس الغرض فيه التوكيد والتكرير لأن ذا إنما ضعف للإلحاق فهذه طريق صناعية وباب تكرير العين هو طريق معنوية ألا ترى أنهم لما اعتزموا إفادة المعنى توفروا عليه وتحاموا طريق الصنعة والإلحاق فيه فقالوا: قطع وكسر تقطيعاً وتكسيراً ولم يجيئوا بمصدره على مثال فعللة فيقولوا: قطعةً وكسرة كما قالوا في الملحق: بيطر بيطرة وحوقل حوقلة وجهور جهورة. ويدلك على أن افعوعل لما ضعفت عينه للمعنى انصرف به عن طريق الإلحاق تغليباً للمعنى على اللفظ وإعلاماً أن قدر المعنى عندهم أعلى وأشرف من قدر اللفظ أنهم قالوا في افعوعل من رددت: اردود ولم يقولوا: اردودد فيظهروا التضعيف للإلحاق كما أظهروه في بياب اسحنكك واكلندد لما كان للإلحاق بالحرنجم واخرنطم ولا تجد في بنات الأربعة نحو احروجم فيظهروا افعوعل من رددت فيقال اردودد لأنه لا مثال له رباعياً فيلحق هذا به. فهذا طريق المثل واحتياطاتهم فيها بالصنعة ودلالاتهم منها على الإرادة والبغية. فأما مقابلة الألفاظ بما يشاكل أصواتها من الأحداث فباب عظيم واسع ونهج متلئب عند عارفيه مأموم. وذلك أنهم كثيراً ما يجعلون أصوات الحروف على سمت الأحداث المعبر بها عنها فيعدلونها بها ويحتذونها عليها. وذلك أكثر مما تقدره وأضعاف ما نستشعره. من ذلك قولهم: خضم وقضم. فالخضم لأكل الرطب كالبطيخ والقثاء وما كان نحوهما من المأكول الرطب. والقضم للصلب اليابس نحو قضمت الدابة شعيرها ونحو ذلك. وفي الخبر قد يدرك الخضم بالقضم أي قد يدرك الرخاء بالشدة واللين بالشظف. وعليه قول أبي الدرداء: يخضمون ونقضم والموعد الله فاختاروا الخاء لرخاوتها للرطب والقاف لصلابتها لليابس حذواً لمسموع الأصوات على محسوس الأحداث. ومن ذلك قولهم: التضح للماء نحوه والنضح أقوى من النضح قال الله سبحانه: ومن ذلك القد طولا والقط عرضاً. وذلك أن الطاء أحصر للصوت وأسرع قطعاً له من الدال. فجعلوا الطاء المناجزة لقطع العرض لقربه وسرعته والدال المماطلة لما طال من الأثر وهو قطعه طولا. ومن ذلك قولهم: قرت الدم وقرد الشيء وتقرد وقرط يقرط. فالتاء أخفت الثلاثة فاستعملوها في الدم إذا جف لأنه قصد ومستخف في الحس عن القردد الذي هو النباك في الأرض ونحوها. وجعلوا الطاء وهي أعلى الثلاثة صوتاً للقرط الذي يسمع. وقرد من القرد وذلك لأنه موصوف بالقلة والذلة قال الله تعالى: ينبغي أن يكون خاسئين خبراً آخر لكونوا والأول قردة فهو كقولك: هذا حلو حامض وإن جعلته وصفا لقردة صغر معناه ألا ترى أن القرد لذله وصغاره خاسئ أبداً فيكون إذا ً صفة غير مفيدة. وإذا جعلت خاسئين خبراً ثانياً حسن وأفاد حتى كأنه قال: كونوا قردة وكونوا خاسئين ألا ترى أن ليس لأحد الاسمين من الاختصاص بالخبرية إلا ما لصاحبه وليس كذلك الصفة بعد الموصوف إنما اختصاص العامل بالموصوف ثم الصفة من بعد تابعة له. ولست أعني بقولي: إنه كأنه قال تعالى: كونوا قردة كونوا خاسئين أن العامل في خاسئين عامل ثان غير الأول معاذ الله أن أريد ذلك إنما هذا شيء يقدر مع البدل. فأما في الخبرين فإن العامل فيهما جميعاً واحد ولو كان هناك عامل آخر لما كانا خبرين لمخبر عنه واحد وإنما مفاد الخبر من مجموعهما. ولهذا كان عند أبي علي أن العائد على المبتدأ من مجموعهما لا من أحدهما لأنه ليس الخبر بأحدهما بل بمجموعهما. وإنما أريد أنك متى شئت باشرت بكونوا أي الاسمين آثرت ولست كذلك الصفة. ويؤنس بذلك أنه لو كانت خاسئين صفة لقردة لكان الأخلق أن يكون قردة خاسئة وفي أن لم يقرأ بذلك البتة دلالة على أنه ليس بوصف. وإن كان قد يجوز أن يكون خاسئين صفة لقردة على المعنى إذ كان المعنى أنها هي هم في المعنى إلا أن هذا إنما هو جائز وليس بالوجه بل الوجه أن يكون وصفاً لو كان على اللفظ. فكيف وقد سبق ضعف الصفة ههنا. فهذا شيء عرض قلنا فيه ثم لنعد. أفلا ترى إلى تشبيههم الحروف بالأفعال وتنزيلهم إياها على احتذائها. ومن ذلك قولهم: الوسيلة والوصيلة والصاد كما ترى أقوى صوتاً من السين لما فيها من الاستعلاء والوصيلة أقوى معنى من الوسيلة. وذلك أن التوسل ليست له عصمة الوصل والصلة بل الصلة أصلها من اتصال الشيء بالشيء ومماسته له وكونه في أكثر الأحوال بعضا له كاتصال الأعضاء بالإنسان وهي أبعاضه ونحو ذلك والتوسل معنى يضعف ويصغر أن يكون المتوسل جزءا أو كالجزء من المتوسل إليه. وهذا واضح. فجعلوا الصاد لقوتها للمعنى ومن ذلك قولهم: الخذا في الأذن والخذأ: الاستخذاء فجعلوا الواو في خذواء لأنها دون الهمزة صوتاً للمعنى الأضعف. وذلك لأن استرخاء الأذن ليس من العيوب التي يسب بها ولا يتناهى في استقباحها. وأما الذل فهو من أقبح العيوب وأذهبها في المزراة والسب فعبروا عنه بالهمزة لقوتها وعن عيب الأذن المحتمل بالواو لضعفها. فجعلوا أقوى الحرفين لأقوى العيبين وأضعفهما لأضعفهما. ومن ذلك قولهم: قد جفا الشيء يجفو وقالوا: جفأ الوادي بغثائه ففيهما كليهما معنى الجفاء لارتفاعهما إلا أنهم استعملوا الهمزة في الوادي لما هناك من حفزه وقوة دفعه. ومن ذلك قولهم: صعد وسعد. فجعلوا الصاد لأنها أقوى لما فيه أثر مشاهد يرى وهو الصعود في الجبل والحائط ونحو ذلك. وجعلوا السين لضعفها لما لا يظهر ولا يشاهد حساً إلا أنه مع ذلك فيه صعود الجد لا صعود الجسم ألا تراهم يقولون: هو سعيد الجد وهو عالي الجد وقد ارتفع أمره وعلا قدره. فجعلوا الصاد لقوتها مع ما يشاهد من الأفعال المعالجة المتجشمة وجعلوا السين لضعفها فيما تعرفه النفس وإن لم تره العين والدلالة اللفظية أقوى من الدلالة المعنوية. فإن قلت: فكان يجب على هذا أن يكون الخذا في الأذن مهموزاً وفي الذل غير مهموز لأن عيب الأذن مشاهد وعيب النفس غير مشاهد قيل: عيب الأذن وإن كان مشاهدا فإنه لا علاج فيه على الأذن وإنما هو خمول وذبول ومشقة الصاعد ظاهرة مباشرة معتدة متجشمة فالأثر فيها أقوى فكانت بالحرف الأقوى وهو الصاد أحرى. ومن ذلك أيضاً سد وصد. فالسد دون الصد لأن السد للباب يسد والمنظرة ونحوها والصد جانب الجبل والوادي والشعب وهذا أقوى من السد الذي قد يكون لثقب الكوز ورأس القارورة ونحو ذلك فجعلوا الصاد لقوتها للأقوى والسين لضعفها للأضعف. ومن ذلك القسم والقصم. فالقصم أقوى فعلاً من القسم لأن القصم يكون معه الدق وقد يقسم بين الشيئين فلا ينكأ أحدهما فلذلك خصت بالأقوى الصاد وبالأضعف السين. ومن ذلك تركيب " ق ط ر " و " ق د ر " و " ق ت ر " فالتاء خافية متسفلة والطاء سامية متصعدة فاستعملنا لتعاديهما في الطرفين كقولهم: فتر الشيء وقطره. والدال بينهما ليس لها صعود الطاء ولا نزول التاء فكانت لذلك واسطة بينهما فعبر بها عن معظم الأمر ومقابلته فقيل قدر الشيء لجماعة ومحرنجمه. وينبغي أن يكون قولهم: قطر الإناء الماء ونحوه إنما هو فعل من لفظ القطر ومعناه. وذلك أنه إنما ينقط الماء عن صفحته الخارجة وهي قطره. فاعرف ذلك. فهذا ونحوه أمر إذا أنت أتيته من بابه وأصلحت فكرك لتناوله وتأمله أعطاك مقادته وأركبك ذروته وجلا عليك بهجاته ومحاسنه. وإن أنت تناكرته وقلت: هذا أمر منتشر ومذهب صعب موعر حرمت نفسك لذته وسددت عليها باب الحظوة به. نعم ومن وراء هذا ما اللطف فيه أظهر والحكمة أعلى وأصنع. وذلك أنهم قد يضيفون إلى اختيار الحروف وتشبيه أصواتها بالأحداث المعبر عنها بها ترتيبها وتقديم ما يضاهي أول الحدث وتأخير ما يضاهي آخره وتوسيط ما يضاهي أوسطه سوقاً للحروف على سمت المعنى المقصود والغرض المطلوب. وذلك قولهم: بحث. فالباء لغلظها تشبه بصوتها خفقة الكف على الأرض والحاء لصحلها تشبه مخالب الأسد وبراثن الذئب ونحوهما إذا غارت في الأرض والثاء للنفث والبث للتراب. وهذا أمر تراه محسوساً محصلاً فأي شبهة تبقى بعده أم أي شك يعرض على مثله. وقد ذكرت هذا في موضع آخر من كتبي لأمر دعا إليه هناك. فأما هذا الموضع فإنه أهله وحقيق به لأنه موضوع له ولأمثاله. ومن ذلك قولهم: شد الحبل ونحوه. فالشين بما فيها من التفشي تشبه بالصوت أول انجذاب الحبل قبل استحكام العقد ثم يليه إحكام الشد والجذب وتأريب العقد فيعبر عنه بالدال التي هي أقوى من الشين ولاسيما وهي مدغمة فهو أقوى لصنعتها وأدل على المعنى الذي أريد بها. ويقال شد وهو يشد. فأما الشدة في الأمر فإنها مستعارة من شد الحبل ونحوه لضرب من الاتساع والمبالغة على حد ما نقول فيما يشبه بغيره لتقوية أمره المراد به. ومن ذلك أيضاً جر الشيء يجره قدموا الجيم لأنها حرف شديد وأول الجر بمشقة على الجار والمجرور جميعاً ثم عقبوا ذلك بالراء وهو حرف مكرر وكررها مع ذلك في نفسها. وذلك لأن الشيء إذا جر على الأرض في غالب الأمر اهتز عليها و اضطرب صاعداً عنها ونازلاً إليها وتكرر ذلك منه على ما فيه من العتعة والقلق. فكانت الراء لما فيها من التكرير ولأنها أيضاً قد كررت في نفسها في جر وجررت أوفق لهذا المعنى من جميع الحروف غيرها. هذا هو محجة هذا ومذهبه. فإن أنت رأيت شيئاً من هذا النحو لا ينقاد لك فيما رسمناه ولا يتابعك على ما أوردناه فأحد أمرين: إما أن تكون لم تنعم النظر فيه فيقعد بك فكرك عنه أو لأن لهذه اللغة أصولاً وأوائل قد تخفى عنا وتقصر أسبابها دوننا كما قال سيبويه: أو لأن الأول وصل إليه علم لم يصل إلى الآخر. فإن قلت: فهلا أجزت أيضاً أن يكون ما أوردته في هذا الموضع شيئاً اتفق وأمراً وقع في قيل: في هذا حكم بإبطال ما دلت الدلالة عليه من حكمة العرب التي تشهد بها العقول وتتناصر إليها أغراض ذوي التحصيل. فما ورد على وجه يقبله القياس وتقتاد إليه دواعي النظر والإنصاف حمل عليها ونسبت الصنعة فيه إليها. وما تجاوز ذلك فخفى لم توءس النفس منه ووكل إلى مصادقة النظر فيه وكان الأحرى به أن يتهم الإنسان نظره ولا يخف إلى ادعاء النقض فيما قد ثبت الله أطنابه وأحصف بالحكمة أسبابه. ولو لم يتنبه على ذلك إلا بما جاء نهم من تسميتهم الأشياء بأصواتها كالخازباز لصوته والبط لصوته والخاقباق لصوت الفرج عند الجماع. والواق للصرد لصوته وغاق للغراب لصوته وقوله تداعين باسم الشيب لصوت مشافرها وقوله: بينما نحن مرتعون بفلج قالت الدلح الرواء إنيه فهذا حكاية لرزمة السحاب وحنين الرعد وقوله: كالبحر يدعو هيقما وهيقما وذلك لصوته. ونحو منه قولهم: حاحيت وعاعيت وهاهيت إذا قلت: حاء وعاء وهاء. وقولهم: بسملت وهيللت وحولقت كل ذلك وأشباهه إنما يرجع في اشتقاقه إلى الأصوات. والأمر أوسع. ومن طريف ما مر بي في هذه اللغة التي لا يكاد يعلم بعدها ولا يحاط بقاصيها ازدحام الدال والتاء والطاء والراء واللام والنون إذا مازجتهن الفاء على التقديم والتأخير فأكثر أحوالها ومجموع معانيها أنها للوهن والضعف ونحوهما. من ذلك الدالف للشيخ الضعيف والشيء التالف والطليف والظليف المجان وليست له عصمة الثمين والطنف لما أشرف خارجا عن البناء وهو إلى الضعف لأنه ليست له قوة الراكب الأساس والأصل والنطف: العيب وهو إلى الضعف والدنف: المريض. ومنه التنوفة وذلك لأن الفلاة إلى الهلاك ألا تراهم يقولون لها: مهلكة وكذلك قالوا لها: بيداء فهي فعلاء من باد يبيد. ومنه الترفة لأنها إلى اللين والضعف وعليه قالوا: الطرف لأن طرف الشيء أضعف من قبله وأوسطه قال الله سبحانه وقال الطائي الكبير: كانت هي الوسط الممنوع فاستلبت ما حولها الخيل حتى أصبحت طرفا ومنه الفرد لأن المنفرد إلى الضعف والهلاك ما هو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( المرء كثير بأخيه ). والفارط المتقدم وإذا تقدم انفرد وإذا انفرد أعرض للهلاك ولذلك ما يوصف بالتقدم ويمدح به لهول مقامه وتعرض راكبه. وقال محمد بن حبيب في الفرتنى الفاجرة: إنها من السالك الثغرة اليقظان كالئها مشى الهلوك عليها الخيعل الفضل وقياس مذهب سيبويه أن تكون فرتنى فعللى رباعية كجحجبى. ومنه الفرات لأنه الماء العذب وإذا عذب الشيء ميل عليه ونيل منه ألا ترى إلى قوله: ممقر مر على أعدائه وعلى الأدنين حلو كالعسل وقال الآخر: تراهم يغمزون من استركوا يوجتنبون من صدق المصاعا ومنه الفتور للضعف والرفت للكسر والرديف لأنه ليس له تمكن الأول. ومنه الطفل للصبي لضعفه والطفل للرخص وهو ضد الشثن والتفل للريح المكوهة فهي منبوذة مطروحة. وينبغي أن تكون الدفلى من ذلك لضعفه عن صلابة النبع والسراء والتنضب والشوحط. وقالوا: الدفر للنتن وقالوا للدنيا أم دفر سب لها وتوضيع منها. ومنه الفلتة لضعفة الرأي وفتل المغزل لإنه تثن واستدارة وذاك إلى وهي وضعفة والفطر: الشق وهو إلى الوهن. الآن قد أنستك بمذهب القوم فقيما هذه حاله ووقفتك على طريقه وأبديت لك عن مكنونه وبقي عليك أنت التنبه لأمثاله وإنعام الفحص عما هذه حاله فإنني إن زدت على هذا مللت وأمللت. ولو شئت لكتبت من مثله أوراقا مئين فأبه له ولاطفه ولا تجف عليه فيعرض عنك مشابهة
|